قبل ثورة يوليو، كانت مصر تحتضن جاليات من الشوام واليهود والأرمن والأتراك والإيطاليين والسودانيين والمغاربة؛ بل وحتى الموارنة والدروز والأكراد والأفغان والتركمان؛ كانت لهم جالية كبيرة اندمجت في المجتمع المصري، وأصبحت واحدة من مكوناته، كل هؤلاء عاشوا جنبا إلى جنب بسلام.
لا أحد يسأل أحد عن دينه إلا عند الزواج أو بعد الوفاة من أجل دفن جثمان المتوفى؛ ولكن مع تصاعد روح التعصب والفرقة في المجتمع، لم يعد هنالك إلا ما يسمى بعنصري الأمة، المسلمين والمسيحيين، ويا ليت الأمور هادئة على هذا النحو؛ بل أصبح المعتاد أن يحدث توتر طائفي بين "عنصري الأمة" بواقع حادثة كل أسبوع تقريباً.
في مصر زمان، كان الشعب يمارس طقوس دين الإسلام بحسب تعاليم المذهب السني، ويقبل على زيارة مساجد ومقابر آل البيت في تقليد لا يفعله إلا أتباع المذهب الشيعي، لم يكن هنالك من يقول لأحد ما هو مذهبك؟ أو أن ما تفعله في هذا الموقف هو فقه سني وما تفعله في هذا الموقف هو فقه شيعي؛ اليوم.. اختلف الأمر وأصبحنا نسأل عن كل ما هو شيعي لنبتعد عنه.
راقب أي مناقشة، وشاهد كيف يتناقش الناس اليوم؟ ستجد تعصبا وصراخا ربما يفضي إلى الإهانة أو الضرب؛ الجميع يرون أنهم على حق، وأن كل شيء من حقهم تحول كل عابر سبيل إلى عالم وفلكي وأديب وقديس وشهيد وإمام وداعية إسلامي، وربما مصمم أزياء أيضاً، وأصبحت السخرية والازدراء هما العامل المسيطر على أي مناقشة، وتوارى خجلاً أبسط قواعد المنطق أو الإقناع في الحديث بين المصريين.
وعلى ما يبدو أن الفرقة والتطرف الذي نعيشه في بلادنا قد وصل إلى محطة جديدة؛ إذ على موقع الفيس بوك انتشر أكثر من جروب بعنوان "ارقصي يا خضرا.. لأ مش قادرة"، قد تظن -عزيزي القارئ- أن الجروب يخص إحدى الراقصات أو المطربات؛ ولكن المفاجأة أن الجروب يخص المنتخب الجزائري الذي يستعد منتخبنا القومي لكرة القدم لملاقاته الشهر المقبل في مباراة فاصلة يتوقف عليها تأهل منتخبنا من عدمه إلى فعاليات كأس العالم العام المقبل.
والـ"خضرا" هنا هي الجزائر على أساس أن العلم الجزائري يطغى عليه اللون الأخضر، أما ما كتب في صدر تلك الجروبات؛ وحتى ما كتبته أعضاء تلك الجروبات؛ فهو تهديد ووعيد للخضرا بأنه سوف يتم سحلها وقتلها يوم المباراة -وهذه هي الأوصاف المهذبة لما يكتب هنالك- وأن بلد المليون شهيد سوف تستقبل 11 شهيدا جديداً بانتهاء المبارة، على اعتبار أن الفريق الجزائري سوف يهزم شر هزيمة في ستاد القاهرة!!.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل قام أحد المتحمسين برسم جرافيك لراقصة ترتدي بدلة رقص مكونة من العلم الجزائري؛ بينما قام متحمس آخر بعمل أغنية تهديد ووعيد للمنتخب الجزائري على نفس ألحان النشيد الوطني الجزائري، ثم تم تتويج سلسلة الافتكاسات تلك بخبر مضروب أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يصلي من أجل عدم تأهل الجزائر إلى كأس العالم لأن الجالية الجزائرية تحدث ضجيجاً يزعجه في شوارع باريس!!
وعلى سبيل المزاح قام مزورو هذا الخبر بالإشارة إلى أنه منقول من وكالة أنباء -ولا مؤخذة- سيفون سبورت، ومن الطريف أن أحد محرري صحافة الكوبي بيست نقل الخبر على أنه حقيقة؛ ولكن هذا ليس موضوعنا الآن.
قد يقول قائل: إن الجزائر سبق لها وأن فعلت إجراء شبيهاً، أو أن هنالك من فعل كيت وكيت، أقول إن المشكلة هنا ليست أننا أول أو أكبر من فعل هذا؛ ولكن القضية أننا لم نكن نفعل هذا من الأساس؛ مهما كانت أخلاقيات المنافس الذي يزور مصر؛ كنا نقوم بواجب الضيافة، ويستحيل أن يتلفظ أي منا بما يجري الآن حيال الضيوف؛ بل ولأن الضيف عربي -تلك الكلمة التي لم يعد لها وزن في نفوس البشر الآن- كان السخاء في الاستضافة هو التقليد المتبع.
وكالعادة، نحن لا نضحي إلا بما نملك، نمارس أعتى وأخطر خطة لتدمير الذات؛ إذ إن أبسط الأمور أننا نعطي الفرصة للأشقاء في الجزائر لفعل المثل؛ خاصة إذا ما فازوا، أو لعب منتخبنا في المستقبل مبارة هنالك، لأنه -ويا للمفاجأة- الكون ورياضة كرة القدم لن يتوقفوا عقب صعودنا إلى كأس العالم أو خسارتنا الماتش.
كما أن كل ما تمت الإساءة إليه هو ملك خالص للتراث والذاكرة المصرية؛ فالنشيد الوطني الجزائري هو من تلحين الموسيقار المصري الأسطورة محمد فوزي، والعلم الجزائري كان مصيره الاندثار إبّان الاحتلال الفرنسي للجزائر لولا إصرار حكومات مصر في العصرين الملكي والجمهوري على الاعتراف بهذا العلم والاحتفاظ به مرفرفاً في سماء القاهرة طوال سنوات الاحتلال، أما الـ"الخضرا" نفسها فلم تقوَ على الاستقلال؛ إلا بمساعدة الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، وأخيراً؛ فإن مصطلح بلد المليون شهيد أساساً من أدبيات إذاعة صوت العرب المصرية التي كانت تناصر المقاومة الجزائرية في السنوات الأخيرة من الاحتلال.
لا نهين إلا أنفسنا، ولا نمزح إلا فيما يخص كرامتنا وتاريخنا، وبغض النظر عن أي نتيجة تسفر عنها المباراة؛ فإنني أدعوكم يوم 14 نوفمبر لحضور جنازة "مصر الاعتدال" التي سوف تقام في ستاد القاهرة.
منقول لاعجابى بالمقال **********************************************************************************